زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان كان السينمائي الدولي الـ78

Sirat

(Joint Jury Prize)

"صّرَاط" للأسباني أوليفر لاشيه... صونوا هداياتكم

بقلم: زياد الخزاعي/ خاص بـ"سينماتك"

 
 

"أشعر أنَّ الفيلم هو انعكاس لجدّلية ذاتيّ. أنا رجلٌ مُتمسّك بالتّقاليد. أتّبع القرآن. أسْكر على القرآن. أنّه أمر صحيٌّ جداً بالنّسبة لي. في الوقت نفسه، أعشق موسيقى "التكنو". لذا، في هذا الفيلم، أُعبّر عن حساسية إنسان في اخر أيام البشريَّة، يحاول أنْ يثق بنفسه كي يمتلك وسائل (بقائه)، بيد أنّ غروره يمنعه من ذلك. أنطلق من مبدأ أنّنا - جميعاً - مُحطّمون. مُحبو جلسات الصخب (التي تسمى بـ"ريف") يعرفون ذلك. في النّهاية، هذا مجتمع من ناس مُشوّهين، وهذا الرجل (بطل الشريط)، هذا الغريب، سيُلامس قاع نفسه".

(أوليفر لاشيه في حديث مع مجلة

"فيلم كومنت" الاميركية، 23 مايو 2025)

******

عند مَتْن جهنّم، ينتظرنا الصّراط السّويّ الذي يقودنا حسب هداياتنا أمّا الى الجنّة للذين لم ينكبوا، وأخر الى الجحيم للا مهتدين. في كلتا الحالتين، يسرط هذا الدّرب الرّبَّاني عباده، من هنا يأتي اللّا فرق بين كتابته سيناً أو صاداً، والأخير معتمد في الكتاب المبين، ومعناه واحد جامع. جديد الإسباني الأصل والفرنسي الإقامة والمغربي الهوى أوليفر لاشيه الحامل للكلمة القرآنيّة ذاتها، يضع المعنى (وليس القراءات الثيوقراطيّة) كرؤية عرفانية متعدّدة المستويات، فهو (1) تضاريسيّ، على أساس أنَّ الصحراء وطبيعتها هما أقرب الى عفّة بريّة، يمكن أنْ يقع فيها كُلَّ شيء، من شهوات مفتوحة كون رقيبها الأرضيّ مغيب، أوأنْ تتجسد كحتف يقيني لأنَّ عين الله لا تغفل الخُطاة. (11) كائني، على أساس أنّنا قادرون على التّمييز لكنّنا نصر على طمس أعيننا، كما ضمائرنا، لنقع في الرّدَّة وننال عقابنا جراءها، و"يسرط"نا طريق القيامة حين تحين الساعة. (111) قرباني، حيث إنَّ الفناء وعدمه هو ثمن مَنْ يتعثرون، في ما ينال الحظوة الأبديَّة أولئك الذين أحسنوا في أعمالهم. يقال إنَّ الصّرَاط دقيق كالشّعرة وأَحَدّ من السيف، يُكلّف جميع الخلق المرور عليه. في حالة لاشيه وجد في البيداء، كجغرافيّة وبيئة، صُرُط يقينيّة مدَّته بحكايات متداخلة لناس يسعون الى "الغرق" في ناموس موسيقي ضاج وصاخب ومدّو كأسلوب تواصلي في عالم يقترب من نهاياته.

******

 
 

يفترض هذا الشريط الوحشيّ الطابع، الحائز على جائزة لجنة التحكيم/ مناصفة في الدورة الـ78 (13 – 24 مايو 2025) لمهرجان كانّ السينمائيّ، أنَّ البشريَّة أساءت التّصرّف بحماقات هيمنة وبَغْي ودمويّة وعسكراتية وانحراف قيم، ليجد أنّ هناك مَنْ وعى ضرورة التّحصن من الخراب وعبوديّاته، وعدم الارتهان الى قوى ظالمة، ليقرّروا بفطنة فطريّة الاحتشاد في مستعمرات تطريب وضروب معازف إلكترونيَّة، منظمين حفلات مفتوحة وسط خلاءات، لا تحرسها سوى السماوات وشموسها وأقمارها ونجومها. فيها، تلتقي بقايا بشريّة لتحقّق أقصى درجات حريّتها، وتنال متعاً دنيويّة، وتضمن تألفآت حسيّة لم تعد مضمونة في أطراف أرض، تحرسها حراب جيوش تستعد لخوض حرب نهائيّة، تقود الجميع الى حتف مقنن وكُلّي.

لئن استخدم لاشيه فكرة أنْ موسيقى التّوليفات الإلكترونيَّة، وتلاعباتها الرقميَّة، وإيقاعاتها المتكرّرة فهي أذن ذات طابع معياريّ، يُعرف بحفلات "ريف" التي انطلقت بريطانياً في ثمانيّنات القرن الماضي، وتعتمد على تقنية إنتاج الأصوات وتشكيلها ما يعني عدم انتمائها الى بقعة معيّنة أو مرجعية جنسيَّة ما أو ثقافة بذاتها، لتصبح عالميّتها مفتاحاً سمعيّاً وتحريضياً شديد الديناميكيّة وواسع النشوة، يخترق كيانات شخوص يرطنون لغات أوروبيّة، ويتفاخرون بوشوم قوطية وطبائع صدامية، يبدون كأصحاب مبدأ عالمي جماعي، يقف بصلافة ضدّ مصادرة حريات البشر.

أقوام صالحون ومحايدون؟ ربَّما! لكنْ عليهم انتظار الدّرب الأصليّ واكتشافه من بين ملايين الخطوط الرمليّة المحيطة بهم. شريط لاشيه (1982) ليس عن الوجود واليقين فحسب، إنّما هو عن نزوح أرغامي لمجتمعات لا تتوالف مع العادة التّقليدية وثباتها ورجعيتها. هجرات تخططها إخوانيات عالميّة، لن تلتفت الى قوانين دوليّة أو تخشاها، بل تفرض سننها وتطبقها رغماً، مغيرة أنسجة اجتماعيّة وثقافيّة وعقائدية، وتنظمها وتقودها حسب مواصفاتها وخططها وعزومها.

أنّها إشارة سينمائيّة متجدّدة من مخرج شاب نبيّه وشجاع وعقلانيّ، يشدَّد على أنَّه ابن والدين ينتميان الى طبقة عاملة تمت خيانتها، ويحمل بسببها في داخله غضب عارم، يرى في تقويض القانون سياسة تدميريّة مقنَّنة وأنانية، تقتل الحريّة الشخصيّة، وتسند فاشيات تتوالد بلا رادع. عليه، فإن القوافل في "ميموزا" (الجائزة الكبرى في أسبوع النقاد، كانّ 2016) و"صّرَاط" تمثل منهجيَّات روحانيَّة للاِنتقال من بؤر قهر الى أخرى أكثر رحابة وتوازناً، إلّا أنْ الهدايات العميّ تأبى على بشرها الوصول الى خلاص من طغيان عام، وترغمّها على الغرق في تآمر وغدر ونقض عهود. في الشريط الأول، تصبح جثة الشيخ الحرون و"القاسي القلب"علّة ضميرية لمن كلّفهم مرافقته وخدمته، فلا هم عازمون على دفنه إكراماً لجثمانه، ولا هم فالحون في تبصّر صّرَاط الحق، لإيصاله الى قرية أهله وسلالاته. في الثاني، تصبح بدواة المجموعة المؤلفة من سبع شخصيات جزءاً من لعنة فطريّة لا حدود الى لظّاها، يقول أحدهم: "كُلّ ما هو هنا ليس سوى غبار"، لكنّهم حين يعبّرون لاحقاً سبيلاً جبليّاً، يجدون أنفسهم داخل حيد عملاق يرسم سرَّاطاً نحو منون لا رجعة أو مَرْحمة فيه.

ترى كيف نَظْم سيناريو لاشيه عقيدته هذا؟ ببساطة شديدة، أقامها على فكرة شخص ضائع، مختف عن الوجود. هو لدى الاخرين نكرة لم يمرّوا أو يصادفوا سحنته، حين يبرز والده لهم صوراً توثق كينونته. لا نعرف الكثير عن الرجل الممتليء لويس (سيرجي لوبيز) الذي يصطحب ابنه الصغير إستيبان (برونو نونيس)، ومعهما كلبتهما بيبا، بحثاً عن الابنة والشقيقة مار التي ضاعت أخبارها منذ خمسة أشهر. ما نتابعه هو تفاصيل لوعته وعزيمته في الوصول الى أيّ معلومة عنها، ما يتطلّب منه هو إيجاد مساره القويم الذي يحوله الشريط حسب المخرج لاشيه الى "رحلة، طقوس عبور. فيه شيء من رحلة البطل، هذا البطل المُجرّد والمُباد الذي يجب أنْ ينظر الى داخله".

جيلانّ الأب وابنه وسط حفلات رقص عارمة وحركات مجنونة وأجساد متلاحمة، مصوّرة بلقطات طويلة وكاميرا محمولة مع وفرة غبار وعرق وأقصى ضجة، هو دراما راديكالية لغلاظات وشراسات وسماجات، عبرهما نقابل كائنات تبدو حرّة بِسِحْن أحرقتها شمس فلاة المغرب، تعلوها ندوب طقس ضروس، وتتحلّى بأقراط وأكسسوارات "نومادية"، تحملها طلات شبابية تنشد الوصول الى نشوات نقاء مطلق، واتّحاد مع شعائر روحانيّة صرفة، ترفض الماديات الفانية، وتُعلي من قوّة الجماعة وتضحياتها. هؤلاء هم بدو السَّفّانة البوهيميون الذين يتحتّم على لويس أنْ يؤمن بهم كجُرأة طبيعيَّة قد تُوصِّله الى ما ضيَّعه، قبل أنْ يخضع جزعاً الى رجاءات ابنه الصغير وصرخاته: "لنلحق بهم، لنتبعهم"، ويقود سيارته "الفان" الى عمق سعير رمليّ، وفي رأسه ما أخبرته سيدة الوشم الأسود خادي (خادي أوكيد) بشأن حفلة موسيقية كبرى يجري الإعداد لها وتنظيمها عند الحدود مع موريتانيا. قبل هذا بقليل، يصوغ المخرج لاشيه ومعه مدير التصوير ماورو هَرسيه، في ثاني تعاون لهما بعد "ميموزا"، انقلاباً أولياً حين تهاجم قوات عسكرية التّجمُّعات وتفككها بفظاظة، وترحل الاجانب الى أوطانهم، أيْ إنْ الغشم لا يرى في العباد سوى عصابات تثير فوضى وصخب، وتشيع فساد أخلاق ودعوات تعهر وارتكاب المعاصي، غافلاً عن حقيقة أنَّ ندوبهم الداخلية وعيوبهم الرأسمالية وحصاراتهم الوجدانية هي المحرضات والدوافع الاساسية التي جلبتهم الى هذه الأرض والتحصّن لها، بحثاً عن سمو جماعي. أنّهم، كما يراهم لاشيه، شخصيات تملك قوى في تصرفاتهم الطبيعية، و"هم لا يواجهون جبروت صحراء خارجية فقط بل وصحراء داخلية أيضاً" (حديث مع "فاراياتي"، 15 مايو 2025).

 يختار الفيلم انقلاباً ثانياً أكثر دمويّة ورهبة في مقاطعه الأخيرة، حين تصل القافلة الصغيرة الى "سّرَاط" جبليّ شديد التّعرج وجليل الخطر، يقودهم (تماماً كما في شريط "ميموزا") الى طرف أخر محصن من نهاية العالم، حيث تصبح الموسيقى وحفلتها المنتظرة استعارة الى سموق روحيّة للبقاء، بيد أنَّ القدر ينتظر خبطته الميتافيزيقيّة التي تثبت لنا جميعاً إن هناك هدايات عميّاً تتحكّم بِمَنْ لا يؤمن بالحقّ والصواب (قرارهم المضيّ برحلة ميؤوس منها)، ومَنْ يخونون فطرتهم السّليمة (تخلّي الفتى الراعي عن مساعدتهم رغم توسلاتهم ومناشداتهم)، ومَنْ لا يتجنّبون النّواهي (غفلتهم عن إشارات القضاء الإلهيّ الذي ينتظرهم، ومنها تعرض الكلبة الى تسمم بعقارات هلوسة!). عليه، يقع ما يلي (1) مدفوعاً بعمى ذاتيّ ومسرعاً من أجل تقديم العون في تحييد حافلة كبيرة أخرى من جرف حاد يقودها الى واد عميق، يغادر لويس سيارته من دون التأكد من فرملتها بالكامل وهي على طريق منحدر. النهاية، تتقهقر وفي داخلها الابن وكلبته ليلقيا حتفهما الرخيص بين الصخور. (11) مفجّوعاً بمصيبته، يهجر الرجل ايمانه، قبل أنْ يشهد ضالّاً تحت القيظ، خاسراً وشقّياً تحت رحمة وحدته وانهياره، فصلاً أخر من حرب الوجود ومعانيه، إذ ينفجر لغم بالشابة خادي، ويكتشف الجميع أنهم يسيرون وسط حقل موت. (111) يائساً، يصبح لويس الكائن الأكثر عنتاً. حين تفشل محاولات المجموعة، أحدهم أبتر وثان بقدم مجذوذة، في تفجير أكبر عدد من الألغام باستخدام الحافلات، يقف الرجل الكامل الأعضاء أمام "رؤياه النهائية الصادقة"، كما لو كان يسوعاً حداثياً، عليه السير على صّرَاط مستقيم، مهما كلفه الأمر!، فبعد نجاح عبوره، ينفجر من تبقى من "العشيرة البدوية البوهيمية" واحداً أثر الأخر، لنراه في مشهد ختامي أبوكالبتي الصورة والبناء البصريّ، جالساً مع حشد من الفارين نحو قيامات إنسانيّة موعودة وهم فوق قطار شحن، يشقّ طريقه وسط  درب جلجلة صحراويّ لا نهاية له ولفواجعه. سّرَاط وكأنَّه نهر "ستيكس" في الميثولوجيا الاغريقية، الذي يجري سبع مرّات حول عالم الأموات. نحن في كل الأحوال!

سينماتك في ـ  16 يوليو 2025

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004