اختتمت مساء أول أمس السبت 24 مايو/ أيار فعاليات الدورة
الـ78 لـ"مهرجان كانّ السينمائي الدولي". وأُسدِلَ الستار على دورة كانت من
أبرز الدورات التي عقدت خلال السنوات القليلة الماضية.
شهدت الدورة عرض أفلام عدة غاية في التميز والجدة والأصالة،
سواء داخل "المُسابقة الرئيسية"، أو غيرها من الفعاليات. ما يعني أن
"المُسابقة الرئيسية"، ودورة المهرجان، بصفة عامة، اتسمت بكثير من الحيوية،
والمستوى الإبداعي المتنوع، والابتكار في طرح الأفكار والرؤى. لكن لم يبرز
كثيرًا الاهتمام بالاشتغال البصري، والجماليات الفنية، والتجريب الشكلي.
وهذا يمكن فهمه طبعًا في ضوء سيطرة القضايا السياسة والاجتماعية تحديدًا
على مختلف الأفلام المعروضة، وحتى حصول أغلبها على جوائز المهرجان. ومن ثم،
يمكن القول إن المهرجان الذي حاول بشتى السبل إمساك عصا السياسة من
المنتصف، وتجنب الغرق في الأجواء العالمية الملتهبة، أو اتخاذ أية مواقف
كانت، أجبرته الأفلام وصناعها ولجان التحكيم على أن يكون منبرًا لاستنكار
ما يجري، وضرورة التصدي له، وإن فنيًا.
من بين 22 فيلمًا في "المُسابقة الرئيسية"، تنوعت
مُوضوعاتها بين السياسي والاجتماعي والإنساني، نالت نصف أفلام المُسابقة،
أو أكثر، استحسان النقاد والصحافيين، وشبه إجماع على جودة الاختيار. وخاصة
الدفع بأسماء جديدة شابة من الجنسين في أكثر من قسم، بحضور نسائي لافت بعض
الشيء، ولا سيما في التمثيل، الذي تميزت فيه أكثر من مُمثلة في أدوار
مختلفة في أكثر من فيلم، وكان من المُحير فعلًا تخمين من ستنال جائزة "أحسن
مُمثلة". وذلك، بعكس الأدوار الذكورية، والتي لم تبرز فيها أداءات لافتة
على نحو ملحوظ هذا العام.
جوائز مُنصفة
في ما يتعلق بالجوائز الرسمية للدورة الـ78، التي جرت مراسم
توزيعها على مسرح "لوميير الكبير"، ومُنحت بناء على قرارات أعضاء لجنة
التحكيم برئاسة المُمثلة الفرنسية جولييت بينوش، وضمت في عضويتها خمس نساء
وأربعة رجال هم: المخرجة الأميركية هالي بيري، والمخرجة وكاتبة السيناريو
الهندية بايال كاباديا، والممثلة الإيطالية ألبا رورفاخر، والكاتبة
الفرنسية المغربية ليلى سليماني، بالإضافة إلى المخرج وكاتب الأفلام
الوثائقية والمنتج الكونغولي ديودو حمادي، والمخرج وكاتب السيناريو الكوري
هونغ سانغ سو، والمخرج وكاتب السيناريو والمنتج المكسيكي كارلوس ريغاداس،
والممثل الأميركي جيريمي سترونغ، فقد جاء أغلبها في محله إلى حد كبير،
ومتوقعًا من لجنة تحكيم كهذه.
"نالت
نصف أفلام المُسابقة، أو أكثر، استحسان النقاد والصحافيين، وشبه إجماع على
جودة الاختيار"
صحيح أن الأمر شابه بعض الاستغراب مع الإعلان التدريجي
للجوائز، لكن مع الوصول إلى جائزة "السعفة الذهبية"، وإعلان الحاصل عليها،
تجلت بعض الأمور، وأمكن للمرء تخمين كيف سارت الأمور والتداولات بين أعضاء
لجنة التحكيم، للخروج بأفضل توليفة ممكنة من الجوائز، تضع السياسي
والاجتماعي والإنساني في المقام الأول، ثم الاعتبار الفني والجمالي، رغم أن
المُنافسة لم تكن هينة، وكان من الصعب فعلًا حسم كثير من الجوائز. لكن يبدو
أن اللجنة كانت على قدر كبير من التفاهم، وربما الظروف العالمية المحيطة لم
تدع لها مجالًا إلا التحلي بالشجاعة والجرأة والإقدام على منح جوائزها من
منطلق سياسي وإنساني واجتماعي في الأساس. وهو أمر يمكن ملاحظته أيضًا في
الجوائز المعلن عنها من جانب مختلف لجان تحكيم المهرجان هذا العام.
توزيع الجوائز
ذهبت أهم وأرفع جوائز المهرجان، "السعفة الذهبية"، إلى فيلم
"حادث بسيط" للمخرج الإيراني جعفر بناهي، بعد سنوات طويلة من عدم استطاعته
الحضور إلى كان لعرض أفلامه، نتيجة صدور أحكام عدة ضده بالسجن والمنع من
العمل، وسحب جواز السفر. منح بناهي الجائزة، بصرف النظر عن مستوى الفيلم،
يعد بمثابة رد اعتبار وتقديم الشكر والتحية له على كفاحه وصموده ومقاومته،
ومواصلته العمل رغم ظروف المنع والإقامة الجبرية. وبعيدًا عن كون الجائزة
بمثابة رسالة سياسية فنية للنظم السياسية على اختلافها في إيران، تعد أيضًا
تتويجًا لمسيرة جعفر بناهي الفنية الحافلة، ليحقق بها إنجازًا نادرًا لم
يتحقق في تاريخ السينما العالمية. إذ أصبح الآن من المخرجين النادرين جدًا
ممن فازوا بجوائز المهرجانات الكبرى: "الدب الذهبي" لمهرجان برلين،
و"السعفة الذهبية" لمهرجان كان، و"الأسد الذهبي" لمهرجان فينيسيا.
الفيلم الذي يطرح أسئلة سياسية وجودية إنسانية وأخلاقية
بامتياز، بشكل مباشر وجريء، يتساءل عن كيفية التصرف لو وقع جلادك بين يديك
ذات يوم، هل تذيقه العذاب نفسه، أو تكون رحيمًا به ومتسقًا وإنسانيتك؟ هذا
هو الخيط العريض لحبكة فيلم "حادث بسيط"، الذي، رغم بساطته وتقشفه، ليس
بسيطًا أبدًا.
أما "الجائزة الكبرى" فنالها فيلم "قيم عاطفية" للمخرج النرويجي يواكيم
ترير. منذ عرض الفيلم، وأغلب الترشيحات تذكر أنه سيكون من بين الفائزين،
وربما ينتزع "السعفة الذهبية". لكن، لأن الفيلم يميل أكثر لتناول الفني،
السينما والمسرح تحديدًا، ضمن سياق إنساني عائلي، ودراما نفسية محكمة،
وأداء قوي، ولا ينشغل بأبعد من هذا، ربما لم تر لجنة التحكيم أنه يستحق تلك
الجائزة، وأنه من الأفضل تتويج ترير بالجائزة الثانية في الأهمية، لخلق بعض
التوازن في ما يخص منح الجوائز.
جائزة "أحسن إخراج" نالها المخرج البرازيلي كليبر ميندونسا
فيلهو عن فيلمه "العميل السري". في جديده، يعود المخرج إلى فترة الحكم
الديكتاتوري في البرازيل، أو ما يطلق عليه "عصر الفوضى"، حيث الاختطاف،
والاعتقال القسري، والقتل، على أشده، في سبعينيات القرن الماضي. الفيلم
سياسي بالأساس، وينتمي أيضًا إلى نوعية أفلام الجريمة والتحري والغموض.
وضمن السياق الاجتماعي المميز دائمًا لأفلامهما، نال فيلم
"الأمهات الشابات"، للأخوين البلجيكيين جان لوك، وبيير داردن، التتويج
بجائزة "أفضل سيناريو". لكن، هل كان السيناريو هو الأفضل فعلًا بين الأفلام
المشاركة؟ سؤال يتعين طرحه وبقوة، خاصة في ظل تقديم المخرج الإيراني سعيد
روستائي عبر فيلمه "أم وابن" درسًا بليغًا وفائق القوة في أسلوب وكيفية
كتابة دراما مشوقة كما يقول الكتاب. لكن، بالطبع، كان صعبًا منح إيران
جائزتين دفعة واحدة.
ليس معنى هذا أن سيناريو فيلم "الأمهات الشابات" على قدر من
الضعف، أو السوء، أو الركاكة. بل بالعكس. لكن قوته تنبع في الأساس من
موضوعه. وليس من تعقد خيوطه، ومهارة رسم شخصياته، ومواقفه المقنعة... إلخ.
يتناول الفيلم قضية مُلحة في المجتمع البلجيكي والأوروبي عامة، وربما ذات
طابع عالمي بعض الشيء، تتعلق بمشكلة الأمهات الشابات، بالأحرى المراهقات،
اللاتي لم ينضجن بعد، وما زلن في مرحلة الدراسة، ولا يستطعن رعاية أطفالهن
والاهتمام بهم، أو تكوين أسرة، وتحمل المسؤولية.
"فاز
الفلسطينيان طرزان وعرب ناصر بجائزة "أحسن إخراج" عن فيلمهما الروائي
الثالث "كان ياما كان في غزة""
أما جائزة "لجنة التحكيم" فذهبت مناصفة إلى فيلم "صراط"
للمخرج الفرنسي الإسباني أوليفر لاكس، وفيلم "صوت السقوط" للمخرجة
الألمانية ماشا شيلينسكي. وهي جائزة تحمل بعض التوازن، لكون الفيلمين غاية
في التميز والقوة والفنية، رغم اختلاف عوالمهما والمعالجة. وكان حريًا
باللجنة منحهما جائزة "أحسن إخراج"، ولو مناصفة، نظرًا لما تميزا به من
اشتغال سينمائي في الأساس. مجددًا، نجد أنفسنا في الفيلمين في صدد
السياسية، وإن بشكل غير مباشر بعض الشيء، خاصة في "صراط"، الذي لا ينشغل
موضوعه بالسياسة أبدًا، بل بالصحراء، ورحلة الطريق، والموسيقى الصاخبة،
وحياة الصعلكة، لكنه مع ذلك في قلبها. في حين كانت حبكة "صوت السقوط"، الذي
لفت الانتباه فور عرضه في الأيام الأولى، متمحورة حول السياسة، عبر أربع
نساء من أجيال مختلفة، يعاين الحرب من وجهات نظر مختلفة.
ذهبت جائزة "أحسن مُمثلة" إلى الممثلة الفرنسية التونسية
الشابة نادية مليتي عن دورها في فيلم "الصغيرة الأخيرة"، للمخرجة الفرنسية
التونسية حفصية حرزي. جائزة رشحت لها وبقوة أكثر من ممثلة، مثلًا الأميركية
جينيفر لورانس عن دورها في فيلم "مت، يا حبيبي". لكن، ذهبت الجائزة إلى
مليتي عن دور المراهقة فاطمة، طالبة البكالوريا المسلمة الملتزمة دينيًا،
التي تتعرف على الحياة من حولها، خاصة علاقتها بجسدها وميولها الجنسية تجاه
النساء. وذلك في حبكة تقليدية تمحورت حول المصاعب التي تمر بها للتعرف
والاعتراف بميولها الجنسية المغايرة.
ذهبت جائزة "أحسن ممثل" إلى البرازيلي فاغنر موري عن أداء
شخصية مارسيلو/ أرماندو في فيلم "العميل السري" لكليبر ميندونسا فيلهو.
ينتحل أرماندو، أو العميل السري، اسمًا مستعارًا هو "مارسيلو"، ويلجأ إلى
مدينة ريسيفي، مدينته، هربًا من ماضيه الغامض الذي يطارده، استعدادًا
لمغادرة البلاد، لكن من يتربصون به ويطاردونه لا يرجون له البقاء حيًا.
وبهذا يكون فيلم "العميل السري" قد حصل على ثلاث جوائز، "أحسن إخراج"،
و"أحسن ممثل"، و"جائزة الفيبريسي"، أو الاتحاد الدولي لنقاد السينما.
منحت "جائزة لجنة التحكيم الخاصة" للمُخرج الصيني باي جان
عن فيلمه الفني الرائع، "البعث". بهذه الجائزة، أضافت اللجنة مزيدًا من
التوازن لصالح ما هو فني، في مقابل السياسي والاجتماعي. إذ يعد فيلم
"البعث"، المضاف في اللحظات الأخيرة إلى مسابقة المهرجان، بعيدًا إلى حد
بعيد جدًا عن السياسة. ويقترب كثيرًا، على المستوى الفني والاشتغال
السينمائي والبصري، إلى جماليات فن السينما، والاشتغال السينمائي لدى
الأساتذة الكبار في عالم السينما، واستلهام أعمالهم.
جائزة قسم "نظرة ما"
في قسم "نظرة ما"، التالي في الأهمية بعد "المُسابقة
الرئيسية"، والمُحتضن للتجارب الأولى للمُخرجين والمُخرجات، وتحظى جوائزه
باهتمام كبير، وتنافس فيه 20 فيلمًا هذا العام، منحت لجنة التحكيم التي
ترأستها المخرجة وكاتبة السيناريو والمصورة البريطانية مولي مانينغ ووكر،
الجائزة الكبرى للفيلم التشيلي "النظرة الغامضة لفلامنغو" للمُخرج دييغو
سيسبيديس. الفيلم هو الروائي الأول لمخرجه، ويتناول علاقة تجمع بين مجموعة
من النساء المتحولات جنسيًا في ثمانينيات القرن الماضي، قررن العيش بعيدًا
عن المجتمع، في عزلة تامة بجوار مناجم التعدين، في خلطة فنية واقعية
وفانتازية تجمع بين الوثائقي والروائي.
جوائز عربية
ضمن القسم نفسه، فاز الفلسطينيان طرزان وعرب ناصر بجائزة
"أحسن إخراج" عن فيلمهما الروائي الثالث "كان ياما كان في غزة". يندرج
العمل تحت نوعية أفلام الجريمة والإثارة والتشويق. ورغم موضوعه العام
وخيوطه الدرامية، إلا أنه يعرج على السياسة بشكل صريح، ويفرض الراهن ظلاله
على بعض مشاهد الفيلم. ومع أن الأحداث تدور قبل الحرب الحالية في غزة،
تحديدًا عام 2007، لكن يبدو من خلال بعض مشاهد الانفجارات والتدمير الحديثة
أنها أضيفت إلى الأحداث عبر توظيف ذكي للمونتاج يربط الفيلم بالحاضر.
كما فاز الفيلم العراقي "كعكة الرئيس" للمخرج حسن هادي،
والذي عرض في تظاهرة "نصف شهر المخرجين"، بجائزة "أفضل فيلم"، وهي جائزة
تمنح بناء على تصويت الجمهور. أما المفاجأة الكبرى فكانت في تتويجه بجائزة
"الكاميرا الذهبية"، التي تمنح للفيلم الأول في مختلف مسابقات وفعاليات
المهرجان. والفيلم هو الروائي الطويل الأول للمخرج، وأول مشاركة عراقية في
هذا القسم، وفي مهرجان "كان" بصفة عامة. وبالطبع، أول فيلم عراقي ينتزع
جائزتين رفيعتين دفعة واحدة في أول مشاركة، منذ إطلاق الجائزة في عام 1978
على يد جيل جاكوب.
تدور أحداث الفيلم، الذي يحمل أيضًا عنوان "مملكة القصب"،
في تسعينيات القرن الماضي، خلال حكم الرئيس صدام حسين، حيث يُجبر طلاب
المدارس على جلب كعكة للاحتفال بعيد ميلاد الرئيس. يتمحور الفيلم حول رحلة
الطفلة لميعة الفقيرة، التي تعيش مع جدتها المريضة في أهوار العراق، حيث
تحاول ببراءة، وبمساعدة جدتها فطيمة، التهرب من القيام بهذا الواجب القسري.
يُذكر أن الممثل الفلسطيني الشاب توفيق برهوم (34 عامًا)
فاز عن فيلمه الروائي القصير "أنا سعيد لأنك ميت الآن" بـ"السعفة الذهبية"
لأفضل فيلم قصير. يدور الفيلم حول شقيقين، أحدهما غير متوازن نفسيًا، ويلجأ
إلى النسيان لتحمل ماضيه القاسي مع والدهما، والآخر يعيش تحت لعنة ذكريات
مؤلمة دفعته في النهاية إلى قتل أقرب الناس... |